تنمية الحس الفني للأطفال

تنمية الحس الفني للأطفال
تاريخ النشر : 2024-06-25


تنمية الحس الفني للأطفال


لا زلت أذكر ذلك الصيف الذي التحق فيه ابني بناد صيفي متميز ، كانت أنشطته تتركز في حفظ القرآن والقيام بأعمال فنية عالية المستوى، كان عمره آنذاك 4 سنوات ولازال إلى الآن وهو في السادسة عشر من العمر يحتفظ بعدد من أعماله التي نفذها في ذلك المركز، لقد كان للتركيز على الفنون وما تتضمنه من متعة وتعبير عن الذات ، وإحساس بالإنجاز والتقدير أثر كبير في حسن استجابة الأطفال وإقبال هم على الحفظ.

يتعلم الأطفال عددا من المهارات الحياتية من خلال الفنون، وإن كان يظهر على الأنشطة الفنية أنها نوع من اللهو والمتعة، وهي كذلك بالفعل إلا أن ها تحمل في طياتها تعلما ثريّا ، ومن المهارات التي يتعلمها الأبناء من خلال الفنون : مهارة حل المشكلات فعندما يمارسون الفنون يجربون عددا من الاحتمالات ليصلوا إلى أفضلها، كما يتعلمون التعبير عن ذواتهم ، ويكتسبون مهارة الترويح الذاتي ( وما أكثر الأبناء الذين يفتقدون هذه الصفة ويطالبون دائما بأن يقوم الآخرون بتسليتهم والترويح عنهم )، و يتعلمون أيضا مهارات التواصل مع الآخرين والتعاون معهم والاهتمام بآرائهم من خلال عرض أعمالهم على الآخرين والاستماع إلى تعليقاتهم، كما يتعلمون من المهارات النفسية المثابرة من خلال الاستمرار في أداء العمل الفني حتى نهايته ، ويتعلمون الإتقان فهم يحاولون تجويد رسمهم أو عملهم الفني وانتقاء ألوانه، وقد نظر العلماء إلى هذه الفوائد التي يمكن أن يربى عيلها الأبناء فيكتسبون بطريقة محببة كثيرا من المهارات والقيم، وأكدوا على أهمية العناية بالفن وتنمية الحس الفني، حتى أن منهم من اعتبر الفنون في مكانة لا تقل أهمية عن اللغة في نمو الأفراد وتعلمهم.

ويعد الحس الفني أحد الخصائص التي تفرد بها الإنسان، وقد كان تقدير الفن والاهتمام به من أوائل الجوانب التي برزت في الحضارات على مر التاريخ حيث أعطي الفن الجميل قيمة عالية جمالية وتعبيرية ابتداء من الرسم في الكهوف وعلى الأصداف والجلود، ونجده اليوم محل اهتمام كبير في الدول المتقدمة إذ أدركوا أنه وراء كل تصميم معماري بديع، وحديقة متناسقة, وصياغة لغوية فريدة، وإعلان جذاب، ووراء كل فكرة إبداعية. ولو نظرنا حولنا لوجدنا بصمات الفن ماثلة أمامنا في كل مكان، حتى في مكاتبنا وأجهزتنا الألكترونية، وفي صفحات مواقعنا.

ومع أن الحس الفني خصيصة إنسانية أصيلة ، ويتأثر إلى حد كبير بميول الفرد واتجاهاته إلا أن البيئة تلعب دورا كبيرا في تنميته وتشجيعه فقد شغلتنا أجهزة التواصل وأنواع التقنيات ولم نعد نحن ولا أبناؤنا نفتح أعيننا على الكون وما فيه من عجائب وجماليات التي تعد الملهمات الأولى للفن، فيعتبر التعرض للجمال والتفاعل معه خطوتين أساسيتين في تنمية المهارات الفنية ، كما أن هناك علاقة وثيقة بين الإحساس بالجمال والتعبير عنه وبين عبادة التفكر التي حث عليها ديننا ، هذه العبادة إذا أصبحت جزءا مهما من حياة المسلم وعمل على إيقاظ قلبه لأدائها تعبدا لله وتهذيبا للنفس، فإن من شأنها أن تصقل إحساسه وتغذي منابع الخير في نفسه. فيما يلي تفصيل لكيفية التعرض للجمال والتفاعل معه مما يحفز الحس الفني ويعد تدريبا عمليا على عبادة التفكر:

أولا: التعرض للجمال : التعرض ليس صعبا فالجمال موجود أمامنا في كل شيء وما علينا سوى النظر للموجودات بطريقة أخرى، أن ننظر إلى كل شيء لمعرفة الجمال والفن المتضمن فيه وأن ننصت ونستشعر ما يثيره في حواسنا من استجابات.

ثانيا: التفاعل مع الجمال: علينا أن نتبع طريقتنا الفطرية في استخدام التعبير اللفظي لتعزيز المشاهدات والتعامل معها، يمكن أن نبدأ من خلال مشاهد حياتنا اليومية ، "السماء لا تبدو بنفس المظهر كل يوم، الألوان الموجودة في الشفق ليست هي نفسها كل يوم، فعوامل الرطوبة والغبار تؤثر في الألوان وتجعلها تبدو فريدة كل يوم، مشهد السماء ليلا ليس هو نفسه في كل ليلة ، فقد تبدو النجوم واضحة وقد تعطي تشكيلات السحب شكلا متمايزا في كل مرة"؛ فبدلا من أن ترى سماء أو سحبا أو قمرا أنت ترى فنا .

ثم ننتقل إلى مناقشة ما نراه من خلال: سؤال ، تعليق، إظهار اهتمام وحماس، في كل مرة نكون فيها في الخارج مع أبنائنا نتحدث عما نراه " سبحان الله ألا ترى إلى السحاب أمام الشمس ما أجمله ، تعجبني الحواف المشعة كيف تبدو مغايرة للجزء الداخلي المعتم فتجعل من كل سحابة كيانا مستقلا عن السحابة الأخرى .. ما رأيك في هذا المنظر يابني؟ "، "تعجبني أشكال السحب وألوانها، أيها يعجبك؟ هناك درجات من اللون الرمادي وهناك طبقات متراكبة من السحب" .

"السماء تبدو هادئة اللون اليوم، إنها تبدو مختلفة عن الأزرق المشرق الذي رأيناه بالأمس"، " اليوم تكتسب أشعة الشمس لونا مميزا بسبب العوالق الترابية فهي تبدو ميالة إلى اللون الأصفر والبرتقالي ، كم هو عجيب هذا الثراء في الألوان الذي يظهر في الطبيعة"، "ما أجمل الخروج للنزهة إنه يشبه المشي داخل منظر طبيعي".

هنا نكون قد حفزنا الفن في نفوس ابنائنا ولفتنا أنظارهم إلى دقائق صنع الله ، فيكتسبون النظرة غير الاعتيادية للموجودات، ونكون كذلك قد حققنا التفاعل مع ما يرون في الطبيعة ، ويجب أن لا ننسى الجمال في الأصوات والمحسوسات، والروائح، شقشقة العصافير عند الشروق والغروب "عجيب كيف يزداد عدد الطيور المغردة كلما اقتربنا من المغرب " ، رائحة النباتات والزهور والمطر أصوات جنادب الليل، ملمس الورد والجلد الناعم.

إذا حققنا التعرض للجمال والتفاعل معه وعملنا على الربط بين الظواهر بطريقة تثير اهتماماتهم نكون قد وضعنا أقدامنا على أوسع طرق تنمية الحس الفني، ولكي يستجيب الأبناء بشكل أفضل من المهم الخروج من إطار علبة الألوان التقليدية إلى الفرشاة والأنواع الأخرى ،والربط بين الرسم وبين ما سبقت رؤيته من جماليات الطبيعة ، فالفن ليس جمالا نستطلعه فحسب بل إحساس يولد إبداعا في الفكرة وجمالا في التصميم. يحتاج ذلك إلى وقت ولكنها طريقة مهمة لاستثارة الإحساس الفني.

ويمكن تحديد أبرز الأساليب في تنمية الحس الفني لدى الأطفال فيما يلي:

  • البداية المبكرة : إذا استمتع الطفل بالتجارب الفنية الأولى فإنه يحبها ويحرص على تكرارها.

  • توفر الأدوات الفنية بشكل متجدد: من المهم الاحتفاظ بكمية متجددة ومتنوعة من الأدوات كأنواع الألوان وأنواع الورق واللوازم الفنية المناسبة لاهتمامات الأبناء، يهتم بعض الآباء ويحضرون أفضل الأدوات للأبناء ولكن دون مشاركة وهم بذلك يفقدون أهم عناصر الدعم.

  • تخصيص وقت لمشاركة الطفل في جلسة فنية ( مرتين في الأسبوع مثلا ) لتعزيز خطواته الفنية : "يعجبني اختيارك لهذه اللونين معا" " أنت ترسم السيارة بمهارة"، اندمج مع الأبناء فالإنسان يتحمس و يطرب ويفرح لمشاركة الآخرين، وأفضل دور يقوم به الآباء هو دور المشاركين دون توجيه مباشر.

  • مشاهدة مقاطع لدروس في الرسم أوالأعمال الفنية عبر الانترنت ، بما يتناسب وعمر الأبناء وميولهم.

  • تعزيز الأعمال الفنية التي يقوم بها الأبناء ، من خلال إبداء الإعجاب بطريقة مناسبة غير مبالغ فيها؛ حيث يؤدي الإعجاب المبالغ فيه إلى شعور زائف بالفخر وتضخيم للأنا لدى الابن ، كذلك لا بد من تجنب الانتقاد والعمل على توجيه الأبناء إلى الطريقة الصحيحة للأداء الفني وتصحيح الأخطاء دون اتباع أسلوب النقد المباشر.

  • المحافظة على فردية الطفل وأسلوبه الخاص في التعبير عما يراه من الظواهر الطبيعية وتمكينه من استخدام الألوان التي رآها في الطبيعة بالطريقة التي يراها ،ومن غير المحبذ تحويل الفن إلى نشاط يقوم به الجميع كما في الفصول الدراسية.

هذا الدور من المفترض أن تقوم به الأسرة وتعززه المدراس، ولكن مدارسنا تركز على التميز في الرياضيات والعلوم واللغة وتعتبر الفن كماليا لا يحتاج إلى اهتمام. إذن علينا أن نعلم أبناءنا مالم تعلمه لهم المدراس؟ ومن خلال تركيزنا على تأمل جماليات الكون وربطها بقدرة الله وبديع صنعه ينمو الحس الفني والجمالي ويتعلم أبناؤنا عبادة التفكر.


د. سحر بنت عبد اللطيف كردي

مستشارة الأسرة والطفل   



 تحمل المرفقات
نشر :

إضافة تعليق جديد

 تم إضافة التعليق بنجاح   تحديث
خطأ: برجاء إعادة المحاولة